فصل: تفسير الآية رقم (25):

صباحاً 5 :16
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (17- 20):

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} إلى قوله: {ياأيها الناس}: قال الفَخْر: اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفْسِهِ؛ لأن الغرض من المَثَل تشبيه الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ، والغائب بالشاهدِ، فيتأكَّد الوقوفُ على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل؛ وذلك هو النهاية في الإِيضاح؛ ألا ترى أنَّ الترغيب والترهيب إِذا وقع مجرَّداً عن ضرب مَثَلٍ، لم يتأكَّد وقوعه في القلب؛ كتأكُّده مع ضرب المثل، ولهذا أكثر اللَّه تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثالَ، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] انتهى.
والمَثَل والمِثْل والمَثِيلُ واحدٌ، معناه: الشبيه، قاله أهل اللغة.
و{استوقد}: قيل: معناه أوقد.
واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد ناراً؛ فقالت فرقةٌ: هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاقِ، فإِيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها، وذهابِ النور، وقالت فرقةٌ، منهم قتادة: نطقهم ب لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ والقُرْآنِ كإِضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها، قال جمهورُ النحاة: جواب {لَمَّا}: {ذَهَبَ} ويعود الضمير من نورهم على {الذي}، وعلى هذا القولِ يتمُّ تمثيل المنافق بالمستوقِدِ؛ لأنَّ بقاء المستوقِدِ في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق؛ على الخلاف المتقدِّم.
وقال قومٌ: جوابُ {لَمَّا} مضمرٌ، وهو {طُفِئَتْ}، فالضمير في {نُورِهِمْ} على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكونُ في الآخرة، وهو قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ...} الآيةَ [الحديد: 13] وهذا القول غير قويٍّ.
والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإِذا فهم، فهو الأخرس، وقيل: الأبكم والأخرس واحدٌ، ووصفهم بهذه الصفات؛ إِذْ أعمالهم من الخطإ وعدم الإِجابة؛ كأعمال من هذه صفته.
و{صُمٌّ}: رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير {أُولَئِكَ}، أو إِضمارهم.
وقوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} قيل: معناه: لا يؤمنون بوجْهٍ، وهذا إنما يصح أنْ لو كانت الآية في معيَّنينِ، وقيل: معناه: فهم لا يرجعونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيحُ.
{أَوْ كَصَيِّبٍ}: {أَوْ}: للتخيير، معناه مثِّلوهم بهذا أو بهذا، والصَّيِّبُ المَطَرُ؛ من: صَابَ يَصُوبُ، إِذا انحط من عُلْو إِلى سُفْل.
و{ظلمات}: بالجمع: إِشارة إِلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب وتتزيد جُمِعَتْ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفوس؛ بخلاف السحاب والمطر، إذا انجلى دجنه، فإنه سارٌّ جميل.
واختلف العلماء في {الرَّعْدِ}، فقال ابن عباس ومجاهد وشَهْرُ بن حَوْشَبٍ وغيرهم: هو مَلَكٌ يزجرُ السحابَ بهذا الصوتِ المسموعِ كلَّما خالفتْ سحابةٌ، صاح بها، فإِذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعقُ، واسم هذا الملك: الرَّعْد.
وقيل: الرَّعْدُ مَلَكٌ، وهذا الصوت تسبيحُهُ.
وقيل: الرعد: اسم الصوْتِ المسموعِ؛ قاله عليُّ بن أبي طالب.
وأكثر العلماء على أن الرعد ملكٌ، وذلك صوته يسبِّح ويزجرُ السحابَ.
واختلفوا في البَرْقِ.
فقال علي بن أبي طالب؛ وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ» وهذا أصحُّ ما روي فيه.
وقال ابن عبَّاس: هو سَوط نور بيد المَلَكِ يزجي به السحَابَ، وروي عنه: «أنَّ البرق ملَكٌ يتراءى»
واختلف المتأوِّلون في المقْصِد بهذ المثل، وكيف تترتب أحوالُ المنافقينَ المُوَازِنَةُ لما في المَثَل من الظلماتِ والرعْدِ والبرقِ والصواعِقِ.
فقال جمهور المفسِّرين: مَثَّلَ اللَّه تعالى القُرْآنَ بالصَّيِّبِ، فما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلماتُ، وما فيه من الوعيدِ والزجْرِ هو الرعْدُ، وما فيه من النُّور والحُجَج الباهرة هو البَرْقُ، وتخوُّفهم ورَوْعُهُمْ وحَذَرُهم هو جَعْلُ أصابعهم في آذانهم، وفَضْحُ نفاقهم، واشتهارُ كفرهم، وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها من الجهادِ والزكاةِ ونحوه هي الصواعقُ، وهذا كله صحيحٌ بيِّن.
وقال ابنُ مسعود: إِن المنافقين في مجلسِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانُوا يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب اللَّه المثل لهم، وهذا وفاقٌ لقول الجمهورِ.
و{مُحِيطٌ بالكافرين} معناه: بعقابهم، يقال: أحاط السلطان بفلانٍ، إِذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42].
و{يَكَادُ} فعل ينفي المعنى مع إِيجابه، ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخَطْفُ: الانتزاعُ بسرعة، ومعنى {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم}، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البَرْقَ في المثل الزجْرَ والوعيدَ، قال: يكاد ذلك يصيبهم.
و{كُلَّمَا}: ظرفٌ، والعامل فيه {مَشَوْا}، و{قَامُوا} معناه: ثَبَتُوا، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عَبَّاس وغيره: كلَّما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحججُ، أنسوا ومشوا معه، فإذا نَزَلَ من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلَّفونه، قاموا، أي: ثَبَتُوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعودٍ؛ أنَّ معنى الآية: كلَّما صلُحَتْ أحوالهم في زروعهم ومواشِيهِمْ، وتوالَتْ عليهم النّعم، قالوا: دين محمَّد دِينٌ مبارَكٌ، وإِذا نزلت بهم مصيبةٌ أَو أصابتهم شدَّة، سَخِطُوه وثَبَتُوا في نفاقهم.
ووحَّد السمع؛ لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
وقوله سبحانه: {على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لفظه العمومُ، ومعناه عند المتكلِّمين: فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، وقديرٌ بمعنى قَادِرٍ، وفيه مبالغةٌ، وخَصَّ هنا سبحانه صفتَهُ الَّتي هي القدرةُ بالذِّكُر؛ لأنه قد تقدَّم ذكر فعلٍ مضمَّنه الوعيدُ والإِخافةُ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك.

.تفسير الآيات (21- 24):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قوله تعالى: {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ...} الآيَةَ: {يَا}: حرفُ نداءٍ، وفيه تنبيهٌ، و{أَيُّ} هو المنادى، قال مجاهد: {ياأيها الناس} حيث وقع في القرآن مَكِّيٌّ، و{ياأيها الذين ءَامَنُواْ} مدنيٌّ.
قال * ع *: قد تقدَّم في أول السورة؛ أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المَدَنِيِّ: {ياأيها الناس}.
وأما قوله في: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ} فصحيح.
{اعبدوا رَبَّكُمُ}: معناه: وحِّدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم؛ إِذ كانت العرب مقرة بأن اللَّه خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجةً عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثيرٌ من المفسِّرين: هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من اللَّه تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع، وفي مختصر الطَّبَرِيِّ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عن مجاهد، أي: لعلَّكم تطيعون، والتقوَى التوقِّي من عذاب اللَّه بعبادته، وهي من الوقاية، وأما لَعَلَّ هنا، فهي بمعنى كَيْ أو لامِ كَيْ، أي: لتتقوا، أوْ لكَيْ تتقوا، وليست هنا من اللَّه تعالى بمعنى الترجِّي، وإنما هي بمعنى كَيْ، وقد تجيء بمعنى كَيْ في اللغة؛ قال الشاعر: [الطويل]
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا ** نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ

انتهى.
قال * ع *: وقال سيبويه: ورؤساءُ اللِّسَان: هي على بابها، والترجِّي والتوقُّع إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجَوْتُمْ لأنفسكم التقوى، ولَعَلَّ: متعلِّقة بقوله: اعبدوا، ويتجه تعلُّقها ب {خَلَقَكُمْ} أي: لَمَّا وُلِدَ كلُّ مولود على الفطرة، فهو إِن تأمله متأمِّل، توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و{تَتَّقُونَ}: مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى {صَيَّرَ} في هذه الآية؛ لتعدِّيها إِلى مفعولين، و{فِرَاشاً} معناه: تفترشونها، و{السَّمَاء} قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمعٌ، واحده سَمَاوَة، وكلُّ ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، {وَأَنزَلَ مِنَ السماء} يريد السحاب، سمي بذلك تجوُّزاً؛ لَمَّا كان يلي السماء، وقد سَمَّوُا المطر سماءً للمجاورة؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر]
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ ** رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

فتجوز أيضاً في رَعَيْنَاهُ.
وواحد الأنداد نِدٌّ، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأوِّلون من المخاطب بهذه الآية، فقالتْ جماعة من المفسِّرين: المخاطَبُ جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد العلم الخاصَّ في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل: المراد كفَّار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلَمُون من الكتب التي عندكم أنَّ اللَّه لا ندَّ له، وقال ابنْ فُورَكَ: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ}، أي: في شكٍّ، {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}: الضمير في {مِثْلِهِ} عند الجمهور: عائد على القرآن، {وادعوا شُهَدَاءَكُم}، أي: مَنْ شهدكم وحضركم من عون ونصير؛ قاله ابنُ عَبَّاس: {إِن كُنتُمْ صادقين}، أي: فيما قلتم من أنَّكم تقدرون على معارضته.
ويؤيِّد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31]، وفي قوله جل وعلا: {وَلَنْ تَفْعَلُواْ} إِثَارةٌ لِهِمَمِهِمْ، وتحريكٌ لنفوسهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن.
وقوله تعالى: {فاتقوا النار}: أمر بالإيمانِ وطاعةِ اللَّه، قال الفَخْر ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإِذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاءُ النار يوجب ترك العناد؛ فأقيم قوله: {فاتقوا النار} مُقَامَ قوله: واتركوا العِنَادَ، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة؛ وذلك يدلُّ على قوتها، نجَّانا اللَّه منها برحمته الواسعة.
وقرَنَ اللَّه سبحانه النَّاسَ بالحجارة؛ لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناماً يعبدونها؛ قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فإحدى الآيتين مفسِّرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوعِ ما منعوا، انتهى.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات...} الآية.
{بَشِّرْ}: مأخوذ من البَشَرَةِ؛ لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثرٌ في بَشَرة الوجه، والأغلب استعمال البِشَارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيَّدة به؛ كما قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ومتى أطلق لفظ البِشَارة، فإِنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: {وَعَمِلُواْ الصالحات} ردٌّ على من يقول: إِن لفظة الإِيمان بمجرَّدها تقتضي الطاعاتِ؛ لأنه لو كان كذلك، ما أعادها، و{جنات} جمع جَنَّة، وهي بستان الشجرِ والنخلِ، وبستانُ الكَرْم، يقال له الفِرْدَوسُ، وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ ثِيَابَ الجَنَّةِ تَشَقَّقُ عَنْهَا ثَمَرُ الجَنَّةِ»، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. انتهى من التَّذْكِرَةِ.
* ت *: وفي الباب عن ابن عبَّاس، وجرِيرِ بن عبد اللَّهِ، وغيرهما: وسمِّيتِ الجنةُ جنَّةً؛ لأنها تجنُّ من دخلها؛ أي: تستره، ومنه المِجَنُّ، وَالْجَنَنُ، وجَنَّ اللَّيْلُ.
و{مِنْ تَحْتِهَا} معناه من تحت الأشجار التي يتضمَّنها ذِكْر الجنة.
* ت *: ومن أعظم البِشَارات أنَّ هذه الأمة هم ثلثا أهْلِ الجنَّة، وقد خرَّج أبو بكر بن أبي شيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ثُلُثَا أَهْلِ الجَنَّةِ، إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإِنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا»، وخرَّج ابن ماجه والترمذيُّ عن بُرَيْدة بن حُصَيْب قال: قال رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ؛ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ»، قال أبو عيسى: هذاحديث حسن.... انتهى من التذْكرة للقرطبيِّ.
{والأنهارُ}: المياه في مجاريها المتطاولة الواسعَةِ؛ مأخوذةٌ من أنْهَرْتُ، أي: وسَّعت؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ» ومعناه: ما وسع الذبح؛ حتى جرى الدم كالنهْرِ، ونسب الجري إِلى النهر، وإِنما يجري الماء تجوُّزاً؛ كما قال سبحانه: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد؛ إِنما تجري على سطْح أرض الجنة منضبطةً.
وقولهم: {هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}: إِشارة إِلى الجنس، أي: هذا من الجنس الذي رزقْنَا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجباً منهم، وهو قولُ ابنِ عَبَّاس، ويحتمل أن يكون خَبَراً من بعضهم لبعْضٍ؛ قاله جماعة من المفسِّرين، وقال الحسنُ، ومجاهدٌ: يرزقُونَ الثمرةَ، ثم يرزقُونَ بعْدَها مثْلَ صورتها، والطَّعْم مختلفٌ، فهم يتعجَّبون لذلك، ويخبر بعضهم بعضاً، وقال ابن عبَّاس: ليس في الجنة شيْءٌ ممَّا في الدنيا سوى الأسماءِ، وأما الذوات فمتباينة، وقال بعض المتأوِّلين: المعنى أنهم يرون الثمر، فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذا الذي رزقْنَا مِنْ قبل في الدنيا، وقال قومٌ: إن ثمر الجنة إِذا قطف منه شيء، خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا إِشارة إِلى الخارج في موضع المجني.
وقوله تعالى: {متشابها} قال ابن عباس وغيره: معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في الطعمِ، و{أزواج}: جمع زوج، ويقال في المرأة: زوجة، والأول أشهر، و{مُّطَهَّرَةٌ}: أبلغ من طَاهِرَة، أي: مُطَهَّرة من الحَيْض، والبُزَاق، وسائر أقذار الآدميَّات، والخلودُ: الدوامُ، وخرَّج ابن ماجة عن أسامة بن زيد؛ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ لأَِصْحَابِهِ: «أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا؛ هِيَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ؛ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامِ أَبَدٍ فِي حَبْرةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ»، قَالُوا: نَحْنُ المُشَمِّرُونَ لَهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ انتهى من التذْكرَةِ.
وقوله: لا خَطَرَ لها؛ بفتح الطاء: قيل: معناه: لا عِوَضَ لها.

.تفسير الآيات (26- 29):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}: لما كان الجليلُ القدْرِ في الشاهد لا يمنعه من الخَوْضِ في نازل القوْلِ إِلا الحَيَاء من ذلكَ، رَدَّ اللَّه بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا}؛ على القائلين كيف يضرب اللَّه مثلاً بالذُّبَابِ ونحوه.
واختلف في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}، هل هو من قول الكافرين أو خبرٌ من اللَّه تعالى؟ ولا خلاف أن قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} من قول اللَّه تعالى، والفسْقُ: الخروجُ عن الشيء، يقال: فَسَقَتِ الفَأْرَةُ، إِذا خرجَتْ من جحرها، والرُّطَبَةُ، إِذا خرجَتْ من قِشْرها، والفِسْقُ في عرف استعمال الشرْعِ: الخروجُ من طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ بكُفْر أو عصيان.
قوله تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله}: النَّقْضُ: ردُّ ما أبرم على أوله غير مبرمٍ، والعهدُ: في هذه الآية: التقدُّم في الشيء، والوَصَاةُ به، وظاهرٌ مما قبل وبعد أنه في جميع الكُفَّار.
* ع *: وكل عهد جائزٌ بيْنَ المسلمين، فنقضه لا يحلُّ بهذه الآية، والخاسر الذي نَقَصَ نفسه حظَّها من الفلاحِ والفوزِ، والخسرانُ النقْصُ، كان في ميزانٍ أو غيره.
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله}: هو تقريرٌ وتوبيخٌ، أي: كيف تَكْفُرون، ونعمه عليكم وقدرته هذه، والواو في قوله: {وَكُنتُمْ} واو الحال.
واختلف في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أمواتا...} الآية.
فقال ابن عبَّاس، وابن مسعود، ومجاهد: المعنى: كنتم أمواتاً معدومِينَ قبل أن تخلقوا دارسين؛ كما يقال للشيء الدَّارِسِ: ميِّت، ثم خلقكم وأخرجكم إِلى الدنيا، فأحياكم، ثم يميتكم الموتَ المعهُودَ، ثم يحييكم للبَعْثِ يوم القيامة، وهذا التأويل هو أولى ما قيل؛ لأنه هو الذي لا محيد للكفار عن الإِقرار به، والضميرُ في {إِلَيْهِ} عائد على اللَّه تعالى، أي: إلى ثوابه أو عقابه، و{خَلَقَ}: معناه: اخترع، وأوجد بعد العدمِ، و{لَكُمْ}: معناه: لِلاِعتبار؛ ويَدُلُّ عليه ما قبله وما بعده من نَصْب العِبَرِ: الإِحياء والإِماتة والاستواء إلى السماء وتسويتِها.
وقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء}: {ثُمَّ} هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه، و{استوى}: قال قومٌ: معناه: علا دون كَيْفٍ، ولا تحديدٍ، هذا اختيار الطبريِّ، والتقديرُ: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كَيْسَان: معناه: قصد إلى السماء.
* ع*: أي: بخلقه، واختراعه، والقاعدةُ في هذه الآية ونحوها منع النّقْلَة وحلولِ الحوادثِ، ويبقى استواءُ القدرةِ والسلطان.
و{سَوَّاهُنَّ}: قيل: جعلهن سواءً، وقيل: سوى سطوحَهُنَّ بالإملاس، وقال الثعلبيُّ: {فَسَوَّاهُنَّ}، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة المُؤْمِنِ، وفي النازعات.